خٌطبة عن (صفات المؤمنين المفلحين)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا عادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا...
أما بعد :-فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى فإنها وصية الله للأولين والآخرين ( ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله)..
عباد الله :- سورةٌ عظيمة في كتاب الله جل وعلا استهلَّها الله جل وعلا بذكر أوصاف المؤمنين الكمَّل وذِكر ما أعدَّ لهم من عظيم الثواب وجزيل المآب ؛ إنها «سورة المؤمنون» .
وفي هذه السورة العظيمة ذُكر في أولها صفات أهل الإيمان بعد أن أخبر جل وعلا في الآية الأولى من آيات هذه السورة بتحقق فلاح أهل الإيمان وفوزهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ أي: قد تحقق فلاحهم وفوزهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة ..وهنا تشتاق النفوس لمعرفة صفات أهل الإيمان وحِلية أهل الإيمان التي استحقوا بها هذا الفلاح العظيم فتأمّلوا صفات أهل الإيمان صفةً فيما ذكره الله جل وعلا في هذا السياق ، ثم تأمّلوا ما أُتبع ذلكم من ذِكرٍ لثواب هؤلاء العظيم وأجرهم الجزيل عند رب العالمين عز وجل..
قال الله سبحانه : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
تأملوا كيف بُدئت هذه الصفات وخُتمت بذكر الصلاة التي هي أعظم الأعمال وأجلُّها على الإطلاق؛ فأول صفاتهم في هذا السياق المبارك أنهم فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) ، وآخر صفةٍ ذكرت لهم في هذا السياق المبارك أنهم عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) ، وهذا - عباد الله - يبين لنا المكانة العلية والمنزلة الرفيعة للصلاة وأنها أجلُّ أعمال أهل الإيمان وأعظم طاعاتهم وأرفع قرباتهم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله تعالى ؟ قال :- الصلاة على وقتها ) وهؤلاء ليسوا فقط محافظين على الصلاة بل خاشعون فيها ، الخشوع في الصلاة هو روحها وهو لبها وهو المقصود الأعظم منها، وصلا بلا خشوع كجسد بلا روح ..
ومن صفات أهل الإيمان: بُعدهم عن اللغو وإعراضهم عن مجالسه وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) ، واللغو يشمل ويتناول كل باطل ، وأعظم ذلك الشرك بالله تبارك وتعالى والبدع والمعاصي .. ويشمل اللغو كذلك:ما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال ..فهم أقوام أوقاتهم نفيسة لايضيعونها فيما لافائدة منه فضلا عما فيه ضرر من المعاصي والموبقات .. إن هؤلاء المؤمنين إذا حصل عندهم فراغ يغتنمونه فيما يقربهم غلى الله تعالى .. يشتغلون بالتسبيح والتحميد والتكبير وقراءة القرآن وبكل ماينفعهم من امور دينهم ودنياهم ..إنهم ليسوا بأهل بطالة يضيعون أوقاتهم أو يسمحون للآخرين بتضييع اوقاتهم لكنهم أهل عزيمة وجد وتشمير..يعرضون عن الجاهلين ولا يشتغلون بمناكفتهم والرد عليهم (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)
ومن صفات هؤلاء المؤمنين : أنهم يؤدون الزكاة ويحافظون عليها وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) ، والزكاة هنا تتناول أداء زكاة المال المفروضة ، وتتناول أيضاً تزكية النفس بالأخلاق الفاضلة والآداب الكاملة قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى:14] أي زكى نفسه بطاعة الله والتأدب بآداب الإسلام وأخلاق الشريعة العظيمة . وأكثر العلماء على أن المراد بالزكاة هاهنا زكاة الأموال ويحتمل أن يكون المراد بالزكاة هاهنا: زكاة النفس من الشرك والدنس{ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا }
ومن صفاتهم: حفظهم لفروجهم ؛ وهذه خلة عظيمة وخصلة كريمة يتصف بها أهل الإيمان ، فهم قد حفظوا فروجهم من الحرام، فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنا أو لواط، ولا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم، أوما ملكت أيمانهم من الإماء -ولا وجود للإماء في الوقت الحاضر-، ومن تعاطى ما أحله الله له فلا لوم عليه ولا حرج؛ ولهذا قال: { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَِكَ } أي: غير الأزواج والإماء، { فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } أي: المعتدون.
عباد الله :- العفة عن الحرام تعني قوة الصبر عن شهوة الفرج المحرمة ،وهي وصف شرف للمؤمن وقد قال عليه الصلاة والسلام ( لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ..)
ومن صفات هؤلاء المؤمنين: أنهم لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) ؛ فهم أهل حفظ للأمانة ورعاية للعهد ، والأمانة : كل ما استُؤمِنْ الإنسان عليه من حقوق الله أو حقوق الخلق عليه : التزام بين اثنين أو أكثر على شيء يعامِل كل واحد من الجانبين الآخرَ به . وسمي عهداً لأنهما يتحَالفان بعهد الله ، أي بأن يكون الله رقيباً عليهما في ذلك فهم راعون للأمانات وللعهود بخلاف حال المنافق الذي إذا عاهد غدر وإذا اؤتمن خان
قال بعض أهل العلم : (إن الزنا وشرب الخمر والميسر والربا وعقوق الوالدين من الكبائر ، ولكن الله - تعالى - لم يتوعد مرتكبي هذه الموبقات بمثل ما توعد به ناكثي العهود وخائني الأمانات قال تعالى (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ) وأي عقاب أشد من عقاب من لا خلاق له في الآخرة ، أي لا نصيب له من النعيم فيها ، ولا يكلمه الله ولا ينظر إليه ، ولا يزكيه بالثناء ؛ وذلك لأن مفاسد النكث والخيانة أعظم من جميع المفاسد التي حرمت لأجلها تلك الجرائم ..
ثم توِّجت هذه الصفات بالمحافظة على الصلاة ، فختمت صفات هؤلاء المؤمنين بقول الله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) فهم مهتمون بشأن الصلاة اهتماما كبيرا فهم يحافظون على إقانتها في وقتها ، يحافظون على أدائها مع جماعة المسلمين في المسجد..الصلاة هي ول اهتمامتهم ولهذا كانوا في صلاتهم خاشعين فغنه لايخشع في صلاته إلا من اهتم بها واهتم بتحقيق الخشوع فيها وجاهد نفسه على ذلك ..
اقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ..
الخطبة الثانية :-
الحمدلله..
عباد الله : حقيقٌ على كل مؤمن وقف على هذه الصفات العظيمة التي هي أبرز صفات أهل الإيمان أن يجاهد نفسه على تحقيق هذه الصفات العليَّة والأوصاف الرفيعة ليفوز الفوز العظيم الذي ذكره ربنا عز وجل بعد ذكر أوصافهم فقال: { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }والفردوس هي أعلى درجات الجنة ، وقد في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن" ، وقوله ( أولئك هم الوارثون) جاء تفسير ذلك في حديث عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات فدخل النار وَرثَ أهل الجنة منزله، فذلك قوله: { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ }( رواه ابن ماجه بسند صحيح ) فالمؤمنون يرثون منازل الكفار؛ لأنهم كلهم خلقوا لعبادة الله تعالى ، فلما قام هؤلاء المؤمنون بما وجب عليهم من العبادة، وترَكَ أولئك ما أمرُوا به مما خُلقوا له -أحرزَ هؤلاء نصيب ولئك لو كانوا أطاعوا ربهم عز وجل،وهذه الآية كقوله تعالى: { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا } ، وكقوله: { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .. ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير ...
|