موقع فضيلة الشيخ الدكتور سعد بن تركي الخثلان » الأخبار » أبحاث ودراسات


سجود الشكر


 

.


أحكام سجود الشكر

لفضيلة الشيخ الدكتور : سعد الخثلان

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين .

الشكر معناه في اللغة : ظهور أثر الغذاء في بدن الحيوان ظهورا بينا يقال " شكرت الدابة إذا ظهر عليها أثر العلف " ودابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ماتأكل وماتعطى من العلف قال ابن القيم رحمه الله "وكذلك حقيقته في العبودية فهو ظهور أثر نعمة الله تعالى على لسان عبده ثناء واعترافا وعلى قلبه شهودا ومحبة وعلى جوارحه انقيادا وطاعة " فحقيقة الشكر الاعتراف بالنعم باللسان والإقرار بها بالقلب والقيام بطاعة المنعم بالجوارح فتعتقد  بقلبك أن النعمة من الله وتنطق بذلك بلسانك كما قال سبحانه {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ }الضحى11 وتقوم بطاعة الله تعالى المنعم بها بجوارحك . قال ابن القيم رحمه الله : " والشكر مبنيٌ على خمس قواعد : خضوع الشاكر للمشكور ، وحبه له ، واعترافه بنعمته ، وثناؤه عليه بها ، وأن لايستعملها فيما يكره " فهذه الخمس هي أساس الشكر وبناؤه عليها فمتى عدم منها واحد اختل من قواعد الشكر قاعدة وكل من تكلم في الشكر وحده فكلامه إليها يرجع وعليها يدور .

ومنزلة الشكر في الدين من أعلى المنازل قال ابن القيم رحمه الله : " هي فوق منزلة الرضا وزيادة " فالرضا مندرج في الشكر إذ يستحيل وجود الشكر بدونه وقد أمر الله سبحانه بالشكر فقال : { وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }النحل114. ونهى عن ضده فقال { وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ }البقرة152 . وأثنى على أهله ووصف به خواص خلقه فقال عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(120 ) شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (121)}النحل . وقال عن نوح عليه الصلاة والسلام{ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً }الإسراء3 . ووعد أهله بأحسن الجزاء فقال : { وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ }آل عمران144 . وجعله سببا للمزيد من فضله وحارسا وحافظا لنعمته فقال : {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }إبراهيم7. وأخبر بأن أهله هم المنتفعون بآياته فقال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }إبراهيم5 . وجعل الشكر سببا لأن يكون الشاكر مشكورا فقال :{إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً }الإنسان22 وأخبر عن رضى الرب به فقال :{ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ }الزمر7 . وأخبر عن قلة أهله في العالمين فقال :{ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }سبأ13. وقد جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تورمت قدماه فتقول له عائشة لما تفعل هذا يارسول الله فقد غفر الله لك ماتقدم من ذنبك وما تأخر فيقول ياعائشة : " أفلا أكون عبدا شكورا " ووصى عليه الصلاة والسلام معاذا فقال : " يا معاذ والله إني لأحبك فلا تدعن أن تقول دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " وصح عنه صلى الله عليه وسلم كما عند أحمد والترمذي وغيرهما أنه عليه الصلاة والسلام كان يسأل الله عزوجل بأن يكون له شاكرا ،وصح عنه أنه كان يدعوا بكلمات ومنها " اللهم اجعلني لك شكارا لك ذكارا"

وبعد هذه المقدمة ننتقل للكلام  عن نوع خاص من أنواع الشكر وهو سجود الشكر والأصل فيه حديث أبي بكرة رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسر به خر ساجدا " أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه ، وقد سجد كعب بن مالك رضي الله عنه لما بشر بتوبة الله عليه كما في قصة الثلاثة اللذين خلفوا وهي في الصحيحين وغيرهما ، وقد روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه سجد لما بشر بفتح اليمامة ومقتل مسيلمة ، وسجد علي رضي الله عنه حين وجد ذا الثدية في الخوارج اللذين قاتلهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأنه يكون فيهم .

وسبب سجود الشكر :-تجدد النعم أو اندفاع النقم فهو سجود لله تعالى شكرا له على تجدد النعمة أو اندفاع النقمة فتكون الإضافة في قولنا سجود الشكر من باب إضافة الشيء إلى نوعه كما تقول " خاتم حديد " لأن هذا السجود هو نوع من الشكر .

 

 

وسجود الشكر إنما يشرع عند تجدد النعم أو اندفاع النقم وقولنا عند تجدد النعم احتراز من النعم المستمرة فإنه لوقيل بمشروعية السجود عندها لكان الإنسان دائما في سجود لأن الله تعالى يقول {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }النحل18 وما أكثر نعم الله تعالى على الإنسان فسلامة السمع نعمة ، وسلامة البصر نعمة ، وسلامة النطق نعمة إلى غير ذلك من النعم الكثيرة التي لاتعد ولاتحصى . ولم ترد السنة بالسجود لمثل هذه النعم المستمرة ولهذا نقل الماردوي رحمه الله في الإنصاف عن بعض الفقهاء أنه قال : " إنما يستحب السجود عند تجدد نعمة أو دفع نقمة ظاهرة لأن العقلاء يهنئون بالسلامة من العارض ولايفعلونه في كل ساعة وإن كان الله تعالى يصرف عنهم البلاء والآفات ويمتعهم بالسمع والبصر والعقل والدين ، ويفرقون في التهنئة بين النعمة الظاهرة والباطنة وكذلك السجود للشكر .

ومن أمثلة تجدد النعم التي يشرع سجود الشكر لها : لو بشر الإنسان بولد فهذه نعمة متجددة فيشرع السجود لها ، أو أنه سمع مثلا بانتصار للمسلمين في أي مكان فهذه نعمة متجددة ، أو أنه نجح في اختبار ما وهو مشفق أن لاينجح فيه وهكذا .

وأما قولنا أو اندفاع النقم : فالمقصود بها النقم التي وجد سببها فسلم منها .

مثال ذلك : رجل حصل له حادث سيارة مثلا وانقلبت السيارة وخرج سالما فيشرع له السجود في هذه الحال لأن هذه النقمة قد وجد سببها وهو هذا الحادث وانقلاب السيارة ولكنه سلم منه.

مثال آخر : إنسان احترق بيته فيسر الله تعالى إطفاء هذا الحريق وسلم هو وجميع أفراد أسرته فهذا اندفاع نقمة فيشرع له أن يسجد لله تعالى شكرا والأمثلة في هذا كثيرة .

والمقصود أنه يشرع السجود عند اندفاع النقم التي انعقد سببها فسلم منها وأما اندفاع النقم المستمر فلا يمكن إحصاؤه ولو قيل يشرع السجود له لكان الإنسان دائما في سجود .

وأما صفة سجود الشكر فهو كصفة سجود التلاوة و المشروع أن يقال فيه مايقال في سجود صلب الصلاة كما نص على ذلك الإمام أحمد وغيره فيقول : " سبحان ربي الأعلى " ويكررها ويقول : " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي " وإن قال بعد ذلك شيئا مما ورد كان حسنا .

وقد اختلف العلماء  في سجود التلاوة هل هو صلاة أو ليس بصلاة ؟ وهذا الخلاف يجري كذلك على سجود الشكر والراجح عند كثير من المحققين  من أهل العلم أنه ليس بصلاة وبناء على ذلك يكون القول الراجح في سجود الشكر أنه ليس بصلاة كذلك فيصح أن يسجد الإنسان عند تجدد نعمة أو عند اندفاع نقمة ولو كان على غير طهارة ولو إلى غير القبلة .

اسأل الله تعالى أن يجعلنا من الشاكرين الذاكرين له كثيرا ، وأن يرزقنا الفقه في الدين

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم