موقع فضيلة الشيخ الدكتور سعد بن تركي الخثلان » الأخبار » أبحاث ودراسات


إسقاط الجنين المشوه خلقيا


 

صبح في الوقت الحاضر بالإمكان معرفة تشوه الجنين عن طريق الأشعة، وأصبح يمكن للأطباء معرفة ما إذا كان هذا الجنين سيولد مشوها أم لا، وذلك عن طريق الأشعة بأنواعها، ولهذا إذا تشوه هذا الجنين، وأنه سيولد مشوها، وسيكون لو ولد وعاش عبئا على والديه..


 

  أصبح في الوقت الحاضر بالإمكان معرفة تشوه الجنين عن طريق الأشعة، وأصبح يمكن للأطباء معرفة ما إذا كان هذا الجنين سيولد مشوها أم لا، وذلك عن طريق الأشعة بأنواعها، ولهذا إذا تشوه هذا الجنين، وأنه سيولد مشوها، وسيكون لو ولد وعاش عبئا على والديه وعلى أسرته، فهل يجوز إسقاطه في هذه الحال أو لا يجوز؟ قبل أن نتكلم عن هذه المسألة نذكر بعض الأمور التي لا بد من تقديمها قبل بحث هذه المسألة، وهي: أن نفخ الروح إنما يكون بعد مضي مائة وعشرين يوما على الحمل، كما جاء ذلك في حديث عبد الله بن مسعود t قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، فقال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم علقة مثل ذلك، ثم مضغة مثل ذلك- فأربعون وأربعون، وأربعون أصبحت مائة وعشرين، أي أربعة أشهر- ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها )متفق عليه، فهذا الحديث ظاهر الدلالة في أن نفخ الروح إنما يكون بعد مائة وعشرين يوما، وهذا التحديد مهم بالنسبة لبحث المسألة.

ولكن قد جاء في حديث حذيفة بن أسيد t وهو في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين، أو خمس وأربعين ليلة (هكذا لفظ الحديث ) فيقول: يا رب، أشقي أو سعيد؟ فيكتبان، فيقول: أي رب أذكر أم أنثى فيكتبان، ويكتب عمله، وأثره، وأجله ورزقه، ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص ) رواه مسلم، فهذا الحديث حديث حذيفة: أن هذه الكتابة تكون بعد أربعين أو خمس وأربعين يوما، بينما في حديث ابن مسعود أن ذلك يكون بعد مائة وعشرين يوما، وكلا الحديثين من جهة السند صحيح: حديث ابن مسعود في الصحيحين، وحديث حذيفة في صحيح مسلم، فكيف نجمع بينهما؟.

تكلم عن ذلك ابن القيم -رحمه الله- في كتابه القيم "شفاء العليل"، وجمع بين هذين الحديثين، قال:( فاجتمعت هذه الأحاديث والآثار على تقدير رزق العبد وأجله وشقاوته وسعادته، وهو في بطن أمه، واختلفت في وقت هذا التقدير: ففي حديث ابن مسعود أنه يقع بعد مائة وعشرين يوما من حصول النطفة في الرحم، وفي حديث حذيفة أنه بعد أربعين يوما أو خمسة وأربعين يوما، قال ابن القيم: وكثير من الناس يظن التعارض بين الحديثين ولا تعارض بينهما بحمد الله، وأن الملك الموكل بالنطفة يكتب ما يقدره الله على رأس الأربعين الأولى حتى يأخذ في الطور الثاني وهو العلقة، وأن الملك الذي ينفخ فيه، يعني الروح فإنما ينفخها بعد الأربعين الثالثة، يعني بعد مائة وعشرين يوما، فيؤمر عند نفخ الروح بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقاوته أو سعادته، وهذا تقدير بعد تقدير، فهذا تقدير غير التقدير الذي كتبه الملك الموكل بالنطفة، فيقدر الله سبحانه شأن النطفة حين تأخذ في مبدأ التخليق وهو العلق، ويقدر الله شأن الروح حين تتعلق بالجسد بعد مائة وعشرين يوما، فهو تقدير بعد تقدير، فاتفقت أحاديث النبي r وصدق بعضها بعضا).

 لكن في حديث حذيفة لم يذكر فيه نفخ الروح، إنما ذكر في حديث ابن مسعود، فيكون إذا نفخ الروح بعد مائة وعشرين يوما، وهو الذي يهمنا في بحث هذه المسألة.  ، هذه المسألة -إسقاط الجنين المشوه- بحثت في مجلس هيئة كبار العلماء، وفي مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، وصدر فيها قرار من مجلس الهيئة، وقرار من المجمع، والقراران متقاربان في تقرير الحكم الشرعي:-

 أولا: لا يجوز إسقاط الحمل في مختلف مراحله إلا لمبرر شرعي، وفي حدود ضيقة جدا؛ حتى في طور الأربعين لا بد من مبرر شرعي، وأما إسقاط الحمل؛ خشية المشقة في تربية الأولاد، أو العجز عن تكاليف معيشهم، أو الاكتفاء بما لدى الزوجين من أولاد، فهذا لا يعتبر مبررا شرعيا، فيكون الإسقاط لأجل هذا الغرض غير جائز، وقد نص على هذا في قرار الهيئة، أن الإسقاط خشية المشقة في تربية الأولاد أو العجز عن تكاليفهم أو الاكتفاء بما لدى الزوجين من أولاد أنه غير جائز ولو كان في طور الأربعين الأولى.

ثانيا: إذا كان الحمل قد بلغ مائة وعشرين يوما، فإنه لا يحل إسقاطه ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنه مشوه الخلقة، وذلك لأنه قد نفخت فيه الروح، وأصبح إنسانا فإسقاطه هو في الحقيقة قتلٌ لإنسان، ولكن إذا كان بقاؤه فيه خطر مؤكد على حياة الأم فهل يجوز إسقاطه في هذه الحال؟ اختلف العلماء المعاصرون في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه لا يجوز إسقاطه ولو كان فيه خطر محقق، ولو ماتت أمه ببقائه، ومن أبرز من قال بهذا القول: الشيخ محمد العثيمين - رحمه الله - قالوا: ما دام أنه قد نفخت فيه الروح لا يحل إسقاطه بأي حال من الأحوال، حتى لو قرر الأطباء أنه إن لم يسقط ماتت أمه، فإنه لا يحل إسقاطه، وعللوا لذلك: بأنه لا يجوز لنا أن نقتل نفسا لاستبقاء نفس أخرى، وإسقاطه بعد مائة وعشرين يوما هو قتل لنفس، قال الشيخ محمد العثيمين -رحمه الله-: فإن قال قائل: إذا أبقيناه وماتت الأم فسيموت هو أيضا فيحصل بذلك قتل نفسين، وإذا أخرجناه فلربما تنجو الأم؛ فالجواب أننا إذا أبقيناه وماتت الأم بسببه، ومات هو بعد موت أمه فإن موت أمه ليس منا، بل من عند الله U فهو الذي قضى عليها بالموت بسبب هذا الحمل، أما إذا أجهضنا الجنين الذي كان حيا، ومات بالإجهاض، فإن إماتته من فعلنا ولا يحل ذلك لنا، فأصحاب هذا القول يرون أن إسقاطه بعد مائة وعشرين يوما فيه تعدٍ على إنسان، وقتل لإنسان من أجل استبقاء إنسان آخر، هذا هو حاصل استدلالهم.

القول الثاني في المسألة: أنه إذا ثبت من الأطباء الموثوقين أن بقاء الجنين فيه خطر مؤكد على حياة الأم، وأنه سوف يتسبب في موتها لو بقي بعد استنفاذ كافة الوسائل لإنقاذ حياته فإنه يجوز إسقاطه في هذه الحال، وقد أخذ بهذا القول مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة، ومجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، وعللوا ذلك بأن إسقاطه في هذه الحال فيه دفع لأعظم الضررين، وجلب لأعظم المصلحتين، وذلك لأن عندنا في هذه المسألة ضررين: وهو موت الأم، أو موت هذا الجنين، وموت الأم أعظم ضررا من موت الجنين، وذلك أن حياة الأم متيقنة، وبقاء هذا الجنين حيا بعد الولادة أمر مشكوك فيه، فموت الأم أعظم ضررا، قالوا: فيجوز إسقاطه دفعا لأعظم الضررين، وهذا القول الأخير هو الأقرب في هذه المسألة، والله أعلم، ولكن ذلك بشروط ليس على إطلاقه، وإنما بشرط أن يكون هناك اتفاق بين الأطباء بأن بقاء هذا الجنين فيه خطر مؤكد على حياة الأم، وأنه لو بقي فسوف يتسبب في وفاتها، فإذا اتفق الأطباء على ذلك، واستنفذت جميع الوسائل لإنقاذ حياته، ولم يمكن ذلك إلا بإسقاطه؛ استنقاذا لحياة الأم جاز إسقاطه في هذه الحال، هذا هو الأقرب لهذه المسألة والله أعلم.

وأما ما ذكره أصحاب القول الأول: من أنه ليس لنا قتل نفس لاستبقاء نفس أخرى، فنحن نقول: نحن الآن عندنا نفسان: عندنا الأم، وعندنا هذا الجنين، فلو لم يسقط هذا الجنين لتسبب في وفاة الأم، ووفاة الأم أعظم ضررا، فحينئذ يجوز إسقاطه في هذه الحال دفعا لأعظم الضررين.

ثالثا:- قبل مرور مائة وعشرين يوما على الحمل، والحمل علقة أو مضغة، إذا أثبت الأطباء بأن الجنين في هذه المرحلة مشوه تشويها خطيرا، وغير قابل للعلاج، وأنه إذا بقي فستكون حياته سيئة وآلاما عليه وعلى أهله، ففي هذه الحال يجوز إسقاطه بناء على طلب الوالدين، وذلك لأن هذا الجنين في هذه المرحلة لم تنفخ فيه الروح، وليس بإنسان، إنما هو مضغة أو علقة فيجوز إسقاطه.

رابعا:- أن يكون في طور الأربعين الأولى، فيجوز إسقاطه إذا وجد في ذلك مصلحة شرعية، أو دفع ضرر متوقع، ومن ذلك أن يكون هذا الجنين لو عاش لكان مشوها خلقيا، فهنا لا بأس بإسقاطه في طور الأربعين الأولى بهذا القيد على أن بعض الفقهاء يجيزون إسقاطه مطلقا بدون قيود ، وهو ظاهر مذهب الحنابلة..

ومما سبق يتبين أن العلماء يشددون فيما إذا كان ذلك الإسقاط بعد مائة وعشرين يوما، ثم المرحلة الثانية: إذا كان مضغة وعلقة، يشددون تشديدا أقل من التشديد الأول،  أما إذا كان في الأربعين الأولى فلا يشددون كثيرا في المسألة، ولذلك يجوز الإسقاط في الأربعين الأولى، ولو لغرض آخرغير تشويه الخلقة، كما لو اغتصبت امرأة مثلا، وحملت فيجوز الإسقاط في طور الأربعين الأولى، ويعتبر هذا من المصلحة ، ونحو ذلك .

والله تعالى أعلم.