موقع فضيلة الشيخ الدكتور سعد بن تركي الخثلان » الأخبار » منبر الجمعة


يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ


 

قف وقفات يسيرة مع حديث عظيم الشأن يشمل معان عظيمة تربي في النفوس تعظيم الله عز وجل وجلاله ومراقبته والخوف منه، ولذلك فقد كان السلف يعظمون هذا الحديث غاية التعظيم..



نقف وقفات يسيرة مع حديث عظيم الشأن يشمل معان عظيمة تربي في النفوس تعظيم الله عز وجل وجلاله ومراقبته والخوف منه، ولذلك فقد كان السلف يعظمون هذا الحديث غاية التعظيم.

فقد كان الإمام احمد رحمه الله يقول: "هو أشرف حديث لأهل الشام".

وكان أبو إدريس الخولاني رحمه الله إذا حدّث بهذا الحديث جثى على ركبتيه تعظيماً وإجلالاًً، وذلك لأنه حديث عظيم تضمن معاني جليلة وقواعد عظيمة.

أخرج مسلم في صحيحة عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال:

"يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا.

يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ.

يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ.

يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ.

يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ.

يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي.

يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا.

يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا.

يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي، إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ.

يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ".

لقد تضمن هذا الحديث العظيم معاني جليلة يحسن بنا الوقوف عندها.

أول هذه المعاني: تنزيه الله سبحانه عن الظلم، ونهى العباد أن يظلم بعضهم بعضاً: "يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا".

والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه. وهو نوعان:

الأول: ظلم النفس: وأعظمه الشرك، كما قال تعالى: }إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ{. [سورة لقمان، الآية: 13].

لأنّ المشرك جعل المخلوق في منزلة الخالق فعبده وتألهه فهو وضع للأشياء في غير مواضعها وكذلك سائر المعاصي إذا ارتكب العبد شيئاً منها فقد ظلم نفسه كما قال تعالى عن ادم وزوجه: }قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ{. [سورة الأعراف، الآية: 23].

الثاني : ظلم العبد لغيره: وهو المذكور في الحديث في الصحيحين، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الظلم ظلمات يوم القيامة".

 وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته العظيمة في حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وإعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا".

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلل منها، فانه ليس ثم دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أُخذ من سيئات أخيه فطُرحت عليه".

فليتق الله أولئك الذين يظلمون عباد الله ويتعدون على حقوقهم. وليتق الله أولئك الذين اقتطعوا حقوق غيرهم بغير حق.

أخرج مسلم في صحيحة عن أبي إمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة. فقال له رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟! قال: وإن كان قضيبا من أراك".

فليتق الله أولئك الذين يظلمون العمال والخدم فلا يعطونهم أجورهم.

فليتق الله أولئك، وليعلموا بأنهم وإن نجوا من عقاب الدنيا، فإنهم لن ينجو من عقاب الآخرة، بل سيكون الله عز وجل خصمهم يوم القيامة، كما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، فيما يرويه النبي صلى الله عليه وسلّم عن ربه تعالى: " ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ".

وثاني هذه التوجيهات الربانية في هذا الحديث القدسي: بيان افتقار العباد إلى عز وجل في هدايتهم من الضلالة وإطعامهم من الجوع وكسوتهم من العري، ومغفرة ذنوبهم، وقد أمرهم سبحانه بطلب هذه الأمور منه وحده جل وعلا:

"يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ.

يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ.

يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ".

وقد استدل إبراهيم الخليل عليه السلام بتفرد الله بهذه الأمور على وجوب إفراده بالعبادة فقال لقومه: }قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ{. [سورة الشعراء، الآية: 75- 82].

فان من تفرد بخلق العبد وهدايته ورزقه وإحيائه وإماتته ومغفرة ذنوبه في الآخرة مستحق أن يفرد بالعبادة والسؤال والتضرع.

ثالث هذه التوجيهات الربانية: بيان أن العباد لا يقدرون أن يوصلوا إلى الله نفعاً ولا ضراً، فإنّ الله تعالى غني حميد، لا حاجة له بطاعات العباد، ولا يعود نفعها إليه، وإنما يعود نفعها إليهم، وهو سبحانه لا يتضرر بمعاصيهم، وإنما هم الذين يتضررون بها. قال تعالى: }إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ...{. [سورة الزمر، الآية: 7].

فهو سبحانه مع غناه عن عباده يحب منهم أن يطيعوه ليثيبهم، وان يستغفروه من ذنوبهم ليغفر لهم، وذاك تفضلا منه وإحساناً.

وبعض العباد مع فقرهم إلى الله وحاجتهم إليه يبتعدون عنه ويبارزونه بالمعاصي، ويضرون أنفسهم، وهذا من جهلهم وغرورهم: "يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي".

ثم إنّه سبحانه هو الغني عن طاعات عباده، لا يصل إليه الضرر بحال من الأحوال:

"يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا.

يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا.

يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي، إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ".

فملك الله عز وجل لا تزيده طاعة المطيع ولا تنقصه معصية العاصي: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ). [سورة فصلت، الآية: 46].

وخزائنه سبحانه لا تنقص مع كثرة الإنفاق، فلو أنّ كل الخلق كانوا أتقياء ما زاد ذلك في ملكه شيئاً، ولو سألوه فأعطى كل سائل حاجته ما نقص ذلك ما عنده.

فملكه سبحانه وتعالى كامل على أي وجه لا يؤثر فيه شيء، وخزائنه لا تنفد ولا تنقص بالعطاء، ولو أعطى الأولين والآخرين والجن والإنس جميع ما سألوه في مقام واحد فهو سبحانه الغني الكريم القوي القدير لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). [سورة يس، الآية: 82].

أرأيتم كيف خلق هذا الكون العظيم في ستة أيام ثم استوى على العرش؟!

لقد خلق سبحانه وتعالى هذا الكون بأرضه وسمائه، وشمسه وقمره، وبحره وبره، وجباله وأنهاره وأشجاره، ورطبه ويابسة، وظاهره وباطنه، خلق هذا الكون على أحسن نظام وأتمه لمصالح عباده.

لقد خلقه سبحانه الكون كله في ستة أيام، ولو شاء خلقه بلحظة، ولكنه سبحانه حكيم يقدر الأمور بأسبابها، وما غاب عنا ما مشاهد قدرته أعظم وأعظم بكثير مما نشاهده، فلقد جاء في الحديث إن السموات السبع والارضين السبع بالنسبة إلى الكرسي الذي وسع السموات والأرض كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض وان نسبة هذا الكرسي إلى العرش كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض "

وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه بسند حسن عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ".

وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء بعد مجاوزته السماء السابعة: "فَرُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ فَقَالَ هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ إِذَا خَرَجُوا لَمْ يَعُودُوا إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ".

وفي رواية مسلم: "فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ".

فسبحان الله العلي الكبير العظيم القدير.

إن الله تعالى غني عنّا: }مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ{. [سورة فصّلت، الآية: 46]. وما ربك بظلام للعبيد.

ولكنه سبحانه أرسل الرسل وانزل الكتب حتى تقوم الحجة على الناس لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين: }رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً{. [سورة النساء، الآية: 165].

 

نقف وقفات يسيرة مع حديث عظيم الشأن يشمل معان عظيمة تربي في النفوس تعظيم الله عز وجل وجلاله ومراقبته والخوف منه، ولذلك فقد كان السلف يعظمون هذا الحديث غاية التعظيم. فقد كان الإمام احمد رحمه الله يقول: "هو أشرف حديث لأهل الشام".