الحمد لله رب العالمين خلق الجن والإنس ليعبدوه وبين لهم طريق الخير ليسلكوه وطريق الشر ليجتنبوه وجعل لهم مدارك وحواس يعرفون بها الضار من النافع والخير من الشر (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) [الإنسان :2 ]
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين خلق الجن والإنس ليعبدوه وبين لهم طريق الخير ليسلكوه وطريق الشر ليجتنبوه وجعل لهم مدارك وحواس يعرفون بها الضار من النافع والخير من الشر (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) [الإنسان :2 ]
عباد الله : " اتقوا الله تعالى وتأملوا ما في كلام الله وكلام رسوله من الحكم والأحكام ، والعبر والمواعظ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد إن خير الحديث كتاب الله " .
عباد الله : نقف في هذه الخطبة وقفات لسيرة مع حديث عظيم الشأن يشتمل معان عظيمة تربي في النفوس تعظيم الله عز وجل وجلاله ومراقبته والخوف منه وذلك فقد كان السلف يعظمونه غاية التعظيم : كان الإمام احمد رحمه الله يقول: هو اشرف حديث لأهل الشام وكان أبو إدريس الخولاني رحمه الله إذا حدث بهذا الحديث جثى على ركبتيه تعظيما وإجلالا وذلك لأنه حديث عظيم تضمن معاني جليلة وقواعد عظيمة .
اخرج مسلم في صحيحه عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال : يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم. يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم ، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا اغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني اغفر لكم ، يا عبادي : إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني . يا عبادي : لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم كانوا على اتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا : يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم كانوا على افجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا . يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا ادخل في البحر يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " .
عباد الله : تضمن هذا الحديث العظيم معاني جليلة يحسن بنا الوقوف عندها.
أول هذه المعاني : تنزيه الله سبحانه عن الظلم ونهى العباد إن يظلم بعضهم بعضا ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه . والظلم نوعان:
الأول: ظلم النفس ... وأعظمه الشرك كما قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) لان المشرك جعل المخلوق في منزلة الخالق فعبده وتألهه فهو وضع للأشياء في غير مواضعها وكذلك سائر المعاصي إذا ارتكب العبد شيئا منها فقد ظلم نفسه كما قال تعالى عن ادم وزوجه (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [ الأعراف : 23] .
الثاني : ظلم العبد لغيره وهو المذكور في هذا الحديث في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال ( إن الظلم ظلمات يوم القيامة )، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته العظيمة في حجة الوداع : ( إن دماءكم وأموالكم وإعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ).
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلل منها فانه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فان لم يكن له حسنات اخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه )
فليتق الله أولئك الذين يظلمون عباد الله ويتعدون على حقوقهم ليتق الله أولئك الذين اقتطعوا حقوق غيرهم بغير حق . أخرجه مسلم في صحيحة عن أبي إمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد اوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقال له رجل وان كان شيئا يسيرا يا رسول الله ؟ قال وان كان قضيبا من أراك " فليتق الله أولئك الذين يظلمون العمال والخدم فلا يعطونهم أجورهم فليتق الله أولئك وليعلموا بأنهم وان نجوا من عقاب الدنيا فإنهم لن ينجو من عقاب الآخرة بل سيكون الله عز وجل خصمهم يوم القيامة كما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه
وثاني هذه التوجيهات الربانية في هذا الحديث القدسي : بيان افتقار العباد إليه عز وجل في هدايتهم من الضلالة وإطعامهم من الجوع وكسوتهم من العري ومغفرة ذنوبهم وقد أمرهم سبحانه بطلب هذه الأمور منه وحده جل وعلا ( يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهديكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطمعته فاستطعموني أطعكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا اغفر الذنوب جميعا فاستغفروني اغفر لكم
وقد استدل إبراهيم الخليل عليه السلام بتفرد الله بهذه الأمور على وجوب إفراده بالعبادة فقال لقومه ( قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ...( [ الشعراء : 75-82] .
فان من تفرد بخلق العبد وهدايته ورزقه وإحيائه وإماتته ومغفرة ذنوبه في الآخرة مستحق أن يفرد بالعبادة والسؤال والتضرع.
ثالث هذه التوجيهات الربانية: بيان أن العباد لا يقدرون أن يوصلوا إلى الله نفعا ولا ضرا فان الله تعالى غني حميد لا حاجة له بطاعات العباد ولا يعود نفعها إليه، وإنما يعود نفعها إليهم ولا يتضرر بمعاصيهم وإنما يتضررون بها قال تعالى: (إن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ... ) فهو سبحانه مع غناه عن عباده يجب منه أن يطيعوه ليثيبهم وان يستغفروه من ذنوبهم ليغفر لهم تفضلا منه وإحسانا والعباد مع فقرهم إلى الله حاجتهم إليه يبتعدون عنه ويبارزونه بالمعاصي ويضرون أنفسهم وهذا من جهلهم وغرورهم ( يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ) ثم سبحانه عن طاعات عباده وعظيم سلطانه الذي لا يصل إليه الضرر بحال من الأحوال ( يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم كانوا على اتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ... يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم كانوا على افجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك بما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا ادخل البحر ) فملك الله عز وجل لا تزيده طاعة المطيع ولا تنقصه معصية العاصي (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ )
وخزائنه سبحانه لا تنقص مع كثرة الإنفاق فلو أن كل الخلق كانوا تقاة ما زاد ذلك في ملكه شيئا ولو سألوه فأعطى كل سائل حاجته ما نقص ذلك ما عنده فملكه سبحانه وتعالى كامل على أي وجه لا يؤثر فيه شيء وخزائنه لا تنفد ولا تنقص بالعطاء . ولو أعطى الأولين والآخرين والجن والإنس جميع ما سألوه في مقام واحد فهو سبحانه الغني الكريم القوي القدير لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون . ارايتم كيف خلق هذا الكون العظيم في ستة أيام ثم استوى على العرش خلق هذا الكون بأرضه وسمائه وشمسه وقمره وبحره وبره وجباله وأنهاره وبحاره وأشجاره ورطبه ويابسة وظاهره وباطنه خلق هذا الكون على أحسن نظام وأتمه لمصالح عباده خلقه كله في ستة أيام ولو شاء لخلقه بلحظة ولكنه سبحانه حكيم يقدر الأمور بأسبابها وما غاب عنا ما مشاهد قدرته أعظم وأعظم بكثير مما نشاهده فلقد جاء في الحديث إن السموات السبع والارضين السبع بالنسبة إلى الكرسي الذي وسع السموات والأرض كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض وان نسبة هذا الكرسي إلى العرش كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض "
واخرج الإمام احمد والترمذي وابن ماجه بسند حسن عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما أرى مالا ترون واسمع ما لا تسمعون اطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله تعالى والله لو تعلمون ما اعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش )
وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء بعد مجاوزته السماء السابعة ثم رفع إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه )
فسبحان الله العلي الكبير العظيم القدير .
عباد الله : إن الله تعالى غني عنا من اهتدى فلنفسه ومن ضل فعليها وما ربك بظلام للعبيد .
ولكنه سبحانه أرسل الرسل وانزل الكتب حتى تقوم الحجة على الناس لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) [ النساء: 165] .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الخطبة الثانية
الحمد لله العلي الأعلى الكامل في الأسماء الحسنى والصفات العلى رب السموات والأرض رب الآخرة والأولى
عباد الله : وأخر هذه التوجيهات الربانية في هذا الحديث العظيم قوله سبحانه في هذا الحديث ( يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله . ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )
بين سبحانه انه يحصي أعمال عباده خيرها وشرها ثم يجازيهم عليهم فالشر يجازي عليه بمثله من غير زيادة إلا أن يعفو عنه والخير يضاعف الحسنة بعشر
أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة لا يعلم قدرها إلا الله تفضلا منه إحسانا ثم بين سبحانه أن الخير كله فضل من الله تعالى على عبده من غير رجوب ولا استحقاق له عليه فيجب أن يحمد الله عليه وان الشر كله من عند ابن ادم قدر عليه بسبب إتباع هوى نفسه كما قال تعالى : ) مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ....) وهذا هو الذي يقع في يوم القيامة فأهل الخير يقولون الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله وأهل الشر.
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ) [ غافر :10 ]
فاتقوا الله عباد الله وبادروا بالأعمال الصالحة وتوبوا من الأعمال السيئة ما دمتم في زمن الإمهال .
(وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ وْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [ الزمر : 54-58] .
عباد الله : إذا أيقن العبد بان الله تعالى مطلع ظاهر وباطنه سره وعلانية وأيقن بأن الله تعالى يحصي عليه أعماله صغيرها وكبيرها وقد وكل به ملكين يكتبان ذلك أقول : أن دوام على العبد وتيقنه بذلك كفيل بأن يجعل العبد مراقباً لله تعالى في جميع تصرفاته فإذا هم بمعصية علم أن الله تعالى مطلع عليه إلا يخفي عنه ولا يغيب فبذلك يقلع عن هذه المعصية ويقبل على الأعمال الصالحة التي تقربه إلى الله سبحانه ، وهذه هي المراقبة وهي ثمرة على بأن الله سبحان رقيب عليه ناظر إليه سامع لقوله وهو مطلع على عملك كل وقت ولك لحظة وكل نفس بل وعلى طرفة عين .
|